حين غاب موسى.. كيف أضل السامري قومه بعجل من ذهب؟

قصة السامري وصناعة العجل في القرآن الكريم: دروس وعبر في زمن الفتن تعد قصة السامري وصناعة العجل في عهد نبي الله موسى عليه السلام من أبرز القصص القرآنية التي تحمل في…

حين غاب موسى.. كيف أضل السامري قومه بعجل من ذهب؟
المؤلف عمرنا
تاريخ النشر
آخر تحديث

قصة السامري وصناعة العجل في القرآن الكريم: دروس وعبر في زمن الفتن

تعد قصة السامري وصناعة العجل في عهد نبي الله موسى عليه السلام من أبرز القصص القرآنية التي تحمل في طياتها دلالات إيمانية وتربوية وتاريخية عميقة. فهي ليست مجرد حادثة عابرة في تاريخ بني إسرائيل، بل مشهد مفعم بالعبر، يجسد كيف يمكن للفتنة أن تستشري في النفوس عند غياب القيادة الراشدة، ويظهر كيف يضعف الإيمان حين يتعرض الإنسان للإغواء بالمظاهر البراقة التي تخفي وراءها الضلال والانحراف. في هذه القصة تتجلى معاني الصبر والابتلاء، ويتضح أثر القائد الغائب، ويكشف عن هشاشة الإيمان حين لا يستند إلى يقين ثابت ومعرفة راسخة.

في هذا المقال، نغوص في تفاصيل هذه القصة كما وردت في كتاب الله العزيز، ونتأمل تفسير العلماء والمفسرين، وعلى رأسهم الإمام ابن كثير رحمه الله، لنفهم أبعاد الحدث من جميع جوانبه. كما سنعمل على استخلاص أهم الدروس والعبر التي تفيد المؤمن في حياته المعاصرة، وتعينه على الثبات أمام الفتن، وتمنحه بصيرة نافذة في تمييز الحق من الباطل، مهما تنوعت أشكاله أو تبدلت صوره. فهذه القصة الخالدة لا تقتصر فائدتها على زمان بعينه، بل تبقى صالحة لكل زمان ومكان، لأن الفتن تتجدد، والحق يبقى واحدا لا يتغير.

من هو السامري؟ | التعريف بشخصية السامري وأصله وخلفيته العقائدية

السامري هو أحد الشخصيات الغامضة والمثيرة للجدل في التاريخ الديني، وقد لعب دورا محوريا في واحدة من أعظم الفتن التي تعرض لها بنو إسرائيل بعد نجاتهم من فرعون، وهي فتنة عبادة العجل. وتعد معرفة خلفية هذا الرجل جزءا أساسيا لفهم أبعاد القصة وأسباب وقوع الفتنة في غياب نبي الله موسى عليه السلام.

بحسب ما أورده الإمام ابن كثير في تفسيره، فإن السامري كان يدعى "موسى بن ظفر"، وقد نشأ في بيئة غير موحدة، إذ كان من قوم عرف عنهم عبادة البقر، وهي عبادة شائعة في بعض الحضارات القديمة التي تأثرت بها مصر الفرعونية وغيرها من الشعوب. وعلى الرغم من أنه أظهر الإسلام وتظاهر بالإيمان حين خرج مع بني إسرائيل من أرض مصر، إلا أن جذور عقيدته الفاسدة لم تندثر من قلبه، بل ظلت كامنة حتى وجد الفرصة المناسبة لإخراجها على هيئة فتنة عظيمة.

ويفهم من الروايات أن السامري لم يكن شخصا عاديا في قومه، بل كان صاحب دهاء وذكاء، وقد امتلك من المهارات ما جعله يؤثر على جمهور بني إسرائيل، ويوظف مكره وحيلته في صناعة العجل الذهبي الذي جعله رمزا للعبادة، مدعيا أن هذا هو "إله موسى" الذي نسيه. وتعد هذه الحادثة نموذجا لتحول العقيدة عند ضعاف الإيمان، حين يتصدر المشهد من لا يملك هدي النبوة، ويتكلم باسم الدين من غير علم ولا وحي.

إن فهم شخصية السامري وخلفيته العقائدية يسلط الضوء على خطورة المنافقين الذين يتظاهرون بالإيمان ويخفون الكفر، كما يبرز كيف يمكن لشخص واحد أن يحدث خللا عظيما في العقيدة، إذا غابت القيادة الصالحة وضعف الوعي الديني بين الناس.

بداية القصة: بعد نجاة بني إسرائيل من فرعون | مرورهم على عبدة الأصنام ورفض موسى عليه السلام لطلبهم

بعد أن نجا بني إسرائيل من بطش فرعون، وتحقق لهم الخلاص من عبودية قاسية استمرت طويلا، شهدوا معجزة عظيمة تمثلت في شق البحر وعبورهم إلى الجهة الأخرى بسلام. كانت هذه الحادثة نقطة فاصلة في تاريخهم، فقد نجوا من العذاب والهلاك بأمر الله تعالى، وابتعدوا عن ظلم فرعون وجنوده. ومع هذا الخلاص العظيم، كان من المتوقع أن يظلوا ثابتين في إيمانهم وتوحيدهم لله عز وجل، ولكنهم مروا في رحلتهم على قوم يعبدون الأصنام، فما كان منهم إلا أن تأثروا بتلك المشاهد، فطلبوا من نبيهم موسى عليه السلام طلبا يعكس ضعفهم العقائدي وتعلقهم بالمظاهر.

طلب بني إسرائيل بإنشاء صنم

تأثر بعض بني إسرائيل بتلك المشاهد الوثنية التي مروا بها، ورغبة منهم في التقليد والتمسك بمظاهر العبادة، طلبوا من نبيهم موسى عليه السلام أن يجعل لهم صنما يعبدونه كما يفعل أولئك القوم. وقد ورد هذا الطلب في القرآن الكريم في قوله تعالى: "اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ" – [الأعراف: 138]. كان هذا الطلب نابعا من جهلهم وضعف فهمهم لمفهوم العبادة الحقيقية التي يجب أن تكون لله وحده، وليس لأصنام أو آلهة زائفة لا تضر ولا تنفع.

رد موسى عليه السلام على طلبهم

رفض نبي الله موسى عليه السلام هذا الطلب بشدة، مبينا لهم مدى خطأهم في التفكير. فقد أوضح لهم أن العبادة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، وهو الذي خلقهم وفضلهم على سائر الأمم، وأعطاهم نعمة الخلاص من فرعون. كما بين لهم أن التعلق بالمظاهر والتقليد الأعمى للمشركين لا ينفع ولا يعود عليهم بخير. وقال لهم في رد واضح وحازم: "إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ"، موضحا أن ما يطلبونه هو سلوك ضال لا يليق بأمة اختارها الله لتكون على هدى من عنده. وبذلك، أكد موسى عليه السلام على ضرورة التمسك بالتوحيد الخالص والابتعاد عن الشرك والبدع.

ميقات موسى عليه السلام وتأخره | ذهابه إلى جبل الطور وبدء الفتنة في غياب القيادة

بعد أن أكمل موسى عليه السلام مهمة قيادة بني إسرائيل ونجاتهم من بطش فرعون، جاء أمر الله له بموعد محدد في جبل الطور، حيث كان هناك ميقات خاص ينتظره لتلقي الوحي وتفاصيل الشريعة من الله عز وجل. وقد ورد في القرآن الكريم إخبار واضح بهذا الميعاد، حيث وعد الله نبيه موسى بثلاثين ليلة في الجبل، ليقضي تلك الفترة في العبادة والتأمل والتقرب إلى الله. ولكن، كما ذكر في الآية الكريمة: "وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ" – [الأعراف: 142]، فإن هذه الثلاثين ليلة قد أتمها الله بعشر آخرين، فكانت المدة الإجمالية أربعين ليلة، هي فترة من العزلة التي قضاها موسى عليه السلام في الجبل، يتلقى فيها التشريع من الله.

الفتنة تبدأ في غياب القيادة

غير أن تأخر موسى عليه السلام عن بني إسرائيل طوال هذه الفترة الطويلة لم يكن مجرد فترة من الانقطاع الروحي فحسب، بل كان له أثر بالغ في نفوس قومه. فبغيابه، دخلت الفتنة في قلوب بعض بني إسرائيل، وبدأوا يعتقدون أن موسى عليه السلام قد هلك أو اختفى عنهم بشكل دائم. هذا الظن السلبي زعزع يقينهم، وأدى إلى أن تنمو فيهم بذور الشك والتذمر، وبدأت قلوبهم تتجه نحو الانحراف. كان ذلك بمثابة الفراغ القيادي الذي استغله السامري، ليمهد الطريق لصناعة العجل الذهبي، فكانت تلك اللحظة بداية للفترة المظلمة التي ابتلي فيها بني إسرائيل بفتنة عظيمة.

هذا الموقف يبرز أهمية القيادة الراشدة في الأوقات الحرجة، ويوضح كيف أن غياب القائد يمكن أن يحدث فجوة كبيرة في المجتمع، تفتح المجال لتسلل الفتن والشهوات إلى قلوب ضعاف الإيمان.

كيف صنع السامري العجل؟ | استغلال الذهب المسروق وأثر جبريل عليه السلام

بعد أن نجح بني إسرائيل في الهروب من فرعون، واكتسبوا الذهب الذي أخذه العديد منهم من المصريين في أثناء الخروج، كان من المفترض أن يتم دفنه بعيدا عن الأنظار. فقد ذكر القرآن الكريم أن نساء بني إسرائيل قد أخذن الذهب من المصريات حين خرجوا من مصر دون رد، وأوصى هارون عليه السلام بأن يتم جمع هذا الذهب ودفنه كي لا يكون سببا للفتنة في غياب موسى عليه السلام. ولكن السامري، الذي كان يخبئ نواياه الخبيثة، استغل هذا الموقف لصناعة فتنة عظيمة.

استغلال السامري للذهب المسروق

عندما بدأ السامري في تنفيذ مخططه، استغل ما كان قد جمعه بني إسرائيل من الذهب المسروق، وبدأ في صناعته عجلا ذهبيا. هذا العجل لم يكن مجرد تمثال أو صنم عادي، بل كان مصنوعا بعناية ليظهر بشكل يشبه الحيوان الحقيقي، ولإقناع بني إسرائيل بأنه إله يستحق العبادة.

السامري وأثر جبريل عليه السلام

ما يميز قصة صناعة هذا العجل هو ما يذكره القرآن الكريم عن السامري وأثر جبريل عليه السلام في صناعة العجل. فقد كان للسامري قدرة غير عادية، حيث رأى جبريل عليه السلام في صورة فرس، ولاحظ أن الأرض التي يمر عليها جبريل تخضر من أثر حوافره. هذا المشهد الغريب جعل السامري يعتقد أن هذه الظاهرة لها تأثير خارق يمكنه استغلاله لصالحه. فقام السامري بأخذ قبضة من التراب الذي مرت عليه حوافر فرس جبريل، ووضعها على العجل الذهبي الذي صنعه.

وعندما فعل ذلك، بدأ العجل يصدر صوتا يشبه صوت الخوار، وكأن العجل حيّا، مما جعل بعض بني إسرائيل يعتقدون أن هذا العجل هو إلههم المعبود، فوقعوا في فتنته. وكان ذلك بمثابة الغرور الذي استغله السامري ليضيع إيمانهم. كما في قوله تعالى عن السامري في سورة طه: "فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي" – [طه: 96]، حيث اعترف السامري بأن نفسه قد زينت له هذا العمل الشنيع.

هذه الحادثة تبرز أهمية الابتعاد عن تأثيرات الفتن والمظاهر الخادعة، وتظهر كيف أن الاستغلال الفاسد للقدرات الخارقة قد يؤدي إلى انحراف الجماعات إذا لم يكن لديهم وعي ديني عميق. كما تبرز قدرة الشيطان والفتن على التسلل إلى القلوب الضعيفة في غياب القيادة الراشدة.

عبادة بني إسرائيل للعجل | ضلال السامري وموقف هارون عليه السلام

بعد أن قام السامري بصناعة العجل الذهبي ووضعه بين بني إسرائيل، بدأ في إغوائهم ليعبدوهم، مدعيا أن هذا العجل هو إلههم الذي يجب عليهم أن يطيعوه. وكان قد ألقى عليهم مزاعم كاذبة، قائلا إن موسى عليه السلام قد ذهب للقاء ربه، وأنه "نسي" العودة إليهم، وبالتالي فإنهم بحاجة إلى إله آخر يتبعونه في غيابه. هذه الحيلة الماكرة أثرت في كثير من بني إسرائيل الذين كانوا في تلك اللحظة في حالة من التذبذب والشك نتيجة غياب القيادة الفعالة، فاقتنعوا بفكرة عبادة العجل، رغم أنهم كانوا قد شهدوا معجزات عظيمة من الله، مثل شق البحر ونجاتهم من بطش فرعون.

ضلال بني إسرائيل ورجوعهم إلى عبادة الأصنام

لقد كانت عبادة العجل بمثابة العودة إلى الوراء بالنسبة لبني إسرائيل، حيث تخلوا عن التوحيد الذي كان قد عرف في زمان الأنبياء، ليعودوا إلى تقليد عبادة الأصنام التي كانوا قد ابتعدوا عنها في مصر. هذا التحول المدهش يعكس مدى ضعف الإيمان في نفوسهم، وكيف أن الفتن والشبهات قد تزعزع يقينهم حتى مع وضوح المعجزات وتفضيل الله لهم.

موقف هارون عليه السلام

في هذه الأثناء، كان هارون عليه السلام يحاول جاهدا إيقاف هذه الفتنة التي كانت تشتعل في صفوف بني إسرائيل. لقد قام بنصحهم وحذرهم من عبادة العجل، موضحا لهم أن هذا العمل هو ضلال بين، وأنه لا يجب عليهم أن يتبعوا السامري في زعمه الكاذب. لكن مع الأسف، لم يلق تحذيره آذانا صاغية، بل قابله الكثيرون بالتهديد بالقتل، في محاولتهم لإجباره على قبول عبادة العجل. وفي ظل هذه الظروف الحرجة، فضل هارون عليه السلام التريث وعدم التسرع في اتخاذ أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم الفتنة أو انقسام بني إسرائيل، خاصة في غياب موسى عليه السلام. فكان هارون عليه السلام في موقف صعب، حيث كان يعلم أن الوقت ليس مناسبا لمواجهة مباشرة قد تثير مزيدا من الفوضى بين القوم.

عودة موسى عليه السلام ومحاسبة السامري | غضب موسى، عقوبة السامري، ونهاية الفتنة

  • غضب موسى ورده الحازم
بعد أن أوحى الله عز وجل إلى نبيه موسى عليه السلام بخبر انحراف قومه عن العبادة الحقة، وحلول الفتنة بينهم نتيجة لعبادة العجل، عاد موسى إلى بني إسرائيل وهو في حالة من الغضب الشديد. كان غضب موسى ناتجا عن خيبة أمل كبيرة في قومه، الذين رغم أن الله أنقذهم من فرعون بمعجزات عظيمة، وقعوا في فتنة عبادة الأصنام. فور وصوله، قابل موسى أخاه هارون عليه السلام، وعاتبه على عدم قدرته على كبح جماح هذه الفتنة في غيابه، متسائلا عن السبب الذي جعلهم ينجرفون وراء السامري. ثم التفت موسى إلى السامري، الذي كان هو المحرك الرئيسي لهذه الفتنة، وسأله مباشرة: "فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ؟" – [طه: 95]، في تعبير حازم يعكس سخطه على ما فعله السامري من فساد في قومه.
  • عقوبة السامري
بعد محاسبة السامري، أصدر موسى عليه السلام حكما قاسيا عليه، حيث كانت عقوبته في الدنيا أن ينفي عن بني إسرائيل، ويحكم عليه بعزلة مرضية تمنعه من التواصل مع أي شخص. كانت هذه العزلة بمثابة تعبير عن حالة من الانعزال الكامل، حيث لا يلمس السامري ولا يلمس أي شخص آخر. وقد ورد في القرآن الكريم: "فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ" – [طه: 97]، ما يعني أن السامري سيعيش حياة مليئة بالوحدة والانعزال، دون القدرة على التفاعل مع الآخرين، جزاءا له على فتنته وحيلة الكذب التي خدع بها بني إسرائيل.
  • نهاية الفتنة وتوبة بني إسرائيل
بعد محاسبة السامري، قرر موسى عليه السلام اتخاذ تدابير حاسمة للقضاء على هذه الفتنة بشكل نهائي. قام بحرق العجل الذي صنعه السامري، ثم نسفه في البحر ليزيله عن أعين بني إسرائيل، ويقطع عنهم مصدر هذا الفساد. وبعد ذلك، أعاد موسى عليه السلام توحيد العقيدة بين قومه، وأمرهم بالتوبة النصوح، حيث طلب منهم أن يتوبوا إلى الله ويعودوا إلى عبادة الله وحده. كانت هذه التوبة تتضمن قتل من عبد العجل من بينهم، وكان هذا الحل الصارم ضروريا لتطهير المجتمع من تأثيرات الفتنة التي استشرت بينهم.

تعد هذه الحادثة من أعمق الدروس في كيفية التعامل مع الفتن وأثر القيادة الراشدة في توجيه المجتمع. ففي اللحظات التي غاب فيها القائد، كان من السهل على الفتن أن تنتشر، لكن بعودة موسى عليه السلام، وتمسكه بالحق، استطاع أن يوقف الفتنة ويعيد الأمة إلى الطريق الصحيح. هذه القصة تحمل في طياتها الكثير من العبر حول أهمية الإيمان الراسخ، ومخاطر الانحراف عن العقيدة بسبب المظاهر والتأثيرات الخارجية.

رؤية تفسير ابن كثير لقصة السامري | دقة التفاصيل وعمق التحليل

  • دقة التفاصيل وعمق التحليل في تفسير ابن كثير
عندما تناول ابن كثير قصة السامري في تفسيره، قدم عرضا مفصلا ودقيقا لأحداث القصة، معتمدا على روايات عديدة من مصادر مختلفة. وقد أضاف عمقا في التحليل، حيث أشار إلى أن السامري كان في الأصل يميل إلى عبادة البقر، وهو ما يوضح الدافع الخفي وراء تصرفاته. هذا الميل لعبادة البقر كان له دور كبير في تفكير السامري وتوجيهه للأمة نحو عبادة العجل. ووفقا لتفسير ابن كثير، يظهر السامري كمن كان يحمل فكرة الشرك في قلبه منذ البداية، حيث كان يختبئ وراء المظاهر، ويستغل الفراغ القيادي في غياب موسى عليه السلام لتحقيق أهدافه الخبيثة.

من أبرز التفاصيل التي ذكرها ابن كثير هي القصة المتعلقة بالقبضة التي أخذها السامري من أثر فرس جبريل عليه السلام. حيث أشار إلى أن السامري كان قد رأى جبريل وهو يمر على الأرض، ولاحظ أن الأرض تصبح خضراء من أثر حوافره، وهو ما دفعه للقبض على جزء من هذا التراب. هذه القبضة، كما يذكر ابن كثير، كانت مفتاحا لصناعة العجل الذي أصدر صوت الخوار، مما ساعد السامري في خداع بني إسرائيل.
  • العبر والدروس من تفسير ابن كثير
في تفسير ابن كثير، نجد أن القصة تحمل العديد من العبر العميقة التي يمكن استخلاصها وتطبيقها على واقعنا اليوم. من أبرز هذه العبر هو أن الفتنة قد تأتي من حيث لا يتوقع، ففي الوقت الذي ظن فيه بني إسرائيل أنهم قد وصلوا إلى بر الأمان بعد نجاة من فرعون، إذا بهم يقعوا في فتنة جديدة أشد. هذه الفتنة، كما بين ابن كثير، كانت نتيجة ضعف الإيمان في قلوبهم، وتسرب الفتنة من خلال الفراغ القيادي والابتعاد عن التوحيد.

كما يوضح ابن كثير أيضا أن الإيمان الظاهري وحده لا يكفي. فحتى لو كان الفرد يظهر التوحيد في سلوكه، فإن ذلك لا يعد كافيا إذا لم يكن راسخا في القلب. هذه الفكرة تعد من أعمق الدروس التي تستنبطها القصة، حيث يجب على المؤمن أن يكون إيمانه ثابتا في قلبه ليحميه من التأثر بالفتن والمغريات التي قد تطرأ.

تفسير ابن كثير يقدم رؤية متكاملة للقصة، ليس فقط من حيث سرد الأحداث، بل أيضا من خلال تحليل الدوافع النفسية والتاريخية التي أدت إلى وقوع بني إسرائيل في فتنة عبادة العجل. الدروس المستفادة من تفسيره تظل صالحة للزمان والمكان، فهي تذكرنا بضرورة التمسك بالإيمان الحقيقي الراسخ في القلوب، وأهمية القيادة الحكيمة في توجيه الأمة وحمايتها من الفتن.

الدروس والعبر من قصة السامري | عبر عظيمة لزمننا الحالي

  • ضعف الإيمان يقود إلى الانحراف السريع رغم المعجزات
من أهم الدروس التي تستخلص من قصة السامري هي أن ضعف الإيمان في قلوب البشر يمكن أن يؤدي إلى الانحراف بسهولة، حتى في ظل وجود معجزات واضحة وجلية. فبني إسرائيل، رغم ما شهدوه من آيات باهرة مثل شق البحر ونجاتهم من فرعون، إلا أنهم سرعان ما وقعوا في فتن عبادة العجل بمجرد غياب موسى عليه السلام. وهذا يثبت أن الإيمان الظاهري وحده لا يكفي؛ بل يجب أن يكون راسخا في القلب، محصنا ضد أي فتنة قد تطرأ.
  • خطر الفتن عند غياب القيادة وتأخر الزعماء عن مواقعهم
الفتن لا تقتصر فقط على فترات الضعف الروحي للأمم، بل تظهر بشكل أكبر في غياب القيادة الحكيمة. في حالة بني إسرائيل، تسبب غياب موسى عليه السلام في خلق فراغ قيادي، ما جعل السامري يتمكن من نشر فتنته. وهذا درس مهم في حياتنا اليومية، حيث تبرز أهمية القيادة الرشيدة في حماية المجتمعات من الانحرافات والضلالات التي قد تسرق الأرواح والعقول في غياب الرؤية الثاقبة.
  • قوة الشبهات وتأثيرها حتى على الأقوام التي رأت آيات بيّنات
رغم أن بني إسرائيل كانوا قد شاهدوا معجزات عظيمة من الله، إلا أن الشبهات التي أثارها السامري استطاعت أن تضلهم وتغويهم. هذا يظهر لنا أن الشبهات، مهما كانت بسيطة، يمكن أن تكون خطيرة جدا على من يفتقرون إلى اليقين الكامل. فقد خدع بنو إسرائيل في وقت كان من المفترض أن يكون إيمانهم فيه أقوى ما يكون بعد مشاهدة المعجزات. وبالتالي، فإن التقاعس عن توطين الإيمان في القلب يمكن أن يكون السبب في السقوط في فتن كبيرة.
  • أن العقوبة قد تكون دنيوية وأخروية كما حصل مع السامري
قصة السامري توضح لنا أن العقوبات الإلهية لا تقتصر على الآخرة فقط، بل قد تكون أيضا في الدنيا. فقد نفي السامري وحكم عليه بأن يعيش في عزلة شديدة في الدنيا، وهذا كان جزاءه على فتنته. كما أن عقوبته في الآخرة ستكون متناسبة مع جرم تحريضه على الشرك وفساد عقيدة بني إسرائيل.
  • القيادة الحقيقية لا تخاف في الله لومة لائم كما فعل موسى عليه السلام
أحد الدروس العميقة التي نستفيدها من قصة موسى عليه السلام هو أنه كان قادرا على اتخاذ القرار الصعب رغم التهديدات. فعندما تحدى السامري والذين عبدوا العجل، لم يتردد موسى عليه السلام في محاسبة السامري، بل فعل ذلك بحزم، غير مبال بالتهديدات التي قد تطرأ عليه أو على قومه. وهذا يبرز صفات القيادة الحقيقية التي لا تخشى في الله لومة لائم، بل تعمل وفقا لما يرضي الله عز وجل دون تردد.
  • ضرورة الحذر من المنافقين والمندسّين في صفوف المؤمنين
قصة السامري تذكرنا بضرورة الحذر من المنافقين والمندسين الذين قد يظهرون بمظهر المؤمنين، ولكنهم في الحقيقة يسعون لتخريب الصفوف وإثارة الفتن. فقد كان السامري من بني إسرائيل، ولكنه كان يحمل نية خبيثة لتقويض إيمانهم، مما يوضح خطر هؤلاء الذين يزعمون الإيمان وهم في الحقيقة يشوهون الحقائق ويضلون الناس عن الطريق المستقيم.

الخاتمة | درس من الماضي ينير دروب الحاضر

قصة السامري وصناعة العجل في غياب موسى عليه السلام ليست مجرد حادثة تاريخية أو سردية قديمة، بل هي واحدة من أعظم الدروس التي تبين لنا كيف يمكن أن تسقط الأمم والشعوب في هوة الضلال عندما تبتعد عن الحق، وتغفل عن هدي الله عز وجل. تظهر هذه القصة، بكل تفاصيلها الدقيقة، خطورة ضعف الإيمان وضرورة تجديده في القلوب بشكل مستمر. كما أنها تحذرنا من التسرب الخفي للفتن، وكيف أن التفريط في اليقظة الدينية قد يقود إلى الانحراف حتى في أعظم الأمم التي شهدت معجزات وآيات باهرة.

إنها دعوة للمؤمنين في كل زمان ومكان بأن يكون إيمانهم راسخا في قلوبهم، وأن يتحلوا بالوعي واليقظة أمام الفتن التي قد تلبس لباس الدين، حتى لا نفاجأ بزوال الحق بسبب الغفلة أو الميل وراء الأهواء والشبهات. كما تدعونا هذه القصة إلى أهمية القيادة الحكيمة التي تحمي الأمة من الانحرافات، وإلى أن نكون دائما على حذر من المنافقين والمندسين الذين يسعون لتشويه الحقائق. فلنتذكر دائما أن الثبات على الحق لا يأتي إلا بالتوكل على الله والتمسك بهديه، وأن الفتن التي قد تواجهنا ما هي إلا اختبار للإيمان، لا يجب أن نقع فيه.

تعليقات

عدد التعليقات : 0