فلسطين: القضية المركزية وجرح الأمة المفتوح
في خضم الأحداث المتسارعة التي يشهدها العالم العربي والإسلامي، وفي ظل ما تشهده المنطقة من تحولات سياسية عميقة وصراعات إقليمية متشابكة، تظل القضية الفلسطينية حاضرة في وجدان الشعوب الإسلامية كجرح نازف لم يندمل منذ عقود طويلة. إنها ليست مجرد أزمة إنسانية أو نزاع جغرافي على أرض محتلة، بل تمثل في جوهرها قضية عقائدية وتاريخية مركزية، ارتبطت ارتباطا وثيقا بالهوية الإسلامية والمقدسات الدينية، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
ورغم تعدد المبادرات، وتغير الأنظمة، وتبدل الأولويات لدى كثير من الحكومات، فإن معاناة الشعب الفلسطيني لا تزال مستمرة، ويزداد المشهد تعقيدا مع كل مرحلة سياسية جديدة، في ظل غياب حل عادل وشامل يعيد الحقوق إلى أصحابها. لقد أصبحت القضية الفلسطينية اليوم مقياسا حقيقيا لنبض الأمة، ومؤشرا على وعيها وكرامتها ووحدتها.
ومع هذا الواقع المؤلم، يتبادر إلى الأذهان سؤال جوهري: ما السبيل الحقيقي للخلاص من هذا الاحتلال الجائر؟ وهل بقي في الأفق بصيص أمل يلوح يعيد للأمة عزتها ولفلسطين حريتها؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب العودة إلى الجذور، وإحياء البوصلة الإيمانية، وتوحيد الصفوف، وتجديد العهد مع أرض الإسراء والمعراج، في وقت تشتد فيه الحاجة إلى وعي جماهيري، ودعم مستمر، ورؤية استراتيجية تعيد للقضية مكانتها في سلم أولويات الأمة الإسلامية.
تدهور القضية الفلسطينية.. من أزمة مزمنة إلى كارثة متفاقمة
من السيئ إلى الأسوأ.. أزمة تتسارع وتداعيات تتعمق
لم تكن القضية الفلسطينية يوما في وضع مستقر، لكنها خلال العقود الأخيرة شهدت انحدارا غير مسبوق، حيث تحولت من أزمة قابلة للحل إلى كارثة مستمرة تتسع رقعتها يوما بعد يوم. فقد باتت فلسطين ساحة مفتوحة لصراعات متعددة الأطراف، وأصبحت قضيتها رهينة التجاذبات الإقليمية والحسابات السياسية الضيقة، فضلا عن الانقسامات الفلسطينية الداخلية التي أضعفت الموقف الوطني وأفقدت القضية زخمها على المستويين العربي والدولي.
وفي الوقت الذي يتمدد فيه الاحتلال الصهيوني في الأرض الفلسطينية من خلال مشاريع الاستيطان وتهويد القدس ومحاولات تغيير معالم المسجد الأقصى، تتضاءل في المقابل فرص التحرير وتتلاشى المبادرات الواقعية التي يمكن أن تصنع فارقا حقيقيا على الأرض. وتزداد المعاناة اليومية للشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة وفي مخيمات الشتات، حيث الحصار والقتل والاعتقالات، يقابلها صمت دولي وتخاذل عربي، ما جعل من القضية جرحا لا يتوقف نزيفه.
غياب الموقف الموحد والدعم المبدئي.. أمة تتفرق وقضية تضعف
من أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور الخطير في مسار القضية الفلسطينية هو غياب الموقف الموحد على مستوى الدول العربية والإسلامية، وافتقارها إلى رؤية استراتيجية متماسكة في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي. فبدلا من أن تجمع الدول على رفض الاحتلال والتصدي لجرائمه، نشهد اليوم حالة من التباين والتناقض في المواقف، بل وتطبيعا مع الكيان الصهيوني في بعض الحالات، ما يضعف قوة الضغط السياسي ويفقد القضية بوصلتها العقائدية والتاريخية.
إن تخلي الكثير من الحكومات عن مرجعية الإسلام في معالجة القضية الفلسطينية يعد انحرافا خطيرا عن مسار النصر الحقيقي، الذي لا يتحقق إلا بالعودة إلى المنهج الإيماني والتمسك بالعقيدة كأصل للمواجهة. فالنصر والتمكين مشروطان بالإيمان والعمل الصالح، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم:
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ..."
[سورة النور: 55]
وهذا الوعد الرباني يبين أن الطريق إلى التحرير لا يمر عبر المواثيق الدولية وحدها، ولا عبر المبادرات السياسية الباردة، بل عبر إحياء الإيمان وتجديد الصلة بالله تعالى، وتوحيد الصفوف، واستنهاض الأمة بكل طاقاتها وإمكانياتها لتعود إلى موقعها الطبيعي كأمة شاهدة قائدة لا تفرط في مقدساتها ولا تساوم على حقوقها.
القضية الفلسطينية قضية إسلامية أولا وأخيرا
فلسطين ليست قضية قومية فقط.. إنها قضية عقيدة
على مر العقود، سعى أعداء الإسلام إلى توجيه الرأي العام العالمي، بل وحتى في بعض الأوساط العربية، نحو تصنيف القضية الفلسطينية باعتبارها مجرد صراع قومي عربي، بعيدا عن سياقها الديني والروحي العميق. وقد نجحوا إلى حد ما في الترويج لهذا المفهوم، الذي يقتصر على اعتبار فلسطين جزءا من النزاع العربي الإسرائيلي، دون الإشارة إلى البعد الأوسع والأكثر تأثيرا في القضية: البعد الإسلامي. هذا التحريف المقصود حاول تقليص الدعم والتأييد الإسلامي للقضية الفلسطينية، واختزالها في إطار ضيق لا يعكس حقيقتها.
لكن الحقيقة الثابتة في التاريخ، والتي لا يمكن إنكارها، هي أن فلسطين ليست مجرد أرض نزاع أو قضية قومية تتعلق بمجموعة معينة من الناس، بل هي قضية إسلامية بامتياز. إنها قضية عقيدة ترتبط ارتباطا وثيقا بالهوية الإسلامية وبمقدسات المسلمين في كل مكان. فالأمة الإسلامية لا ترى في فلسطين مجرد أرض محتلة، بل هي جزء لا يتجزأ من عقيدتها، ومن تاريخها، ومن عباداتها. المسجد الأقصى المبارك، الذي يقع في قلب فلسطين، هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقد ارتبط ذكره في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ارتباطا وثيقا بالدين الإسلامي. لذلك، فإن معركة فلسطين هي معركة إيمانية في المقام الأول، وليست معركة قومية أو عرقية، مما يجعل دعمها واجبا شرعيا على كل مسلم في العالم، بغض النظر عن عرقه أو جنسيته.
أهمية المسجد الأقصى في العقيدة الإسلامية
يظل المسجد الأقصى في قلب كل مسلم رمزية دينية وروحية عظيمة لا تقاس بأي مكان آخر على وجه الأرض. فهو ليس مجرد موقع تاريخي، بل هو جزء أساسي من العقيدة الإسلامية. يعتبر المسجد الأقصى أولى القبلتين، حيث توجه المسلمون في الصلاة إلى هذا المكان قبل أن يؤمروا بالتوجه إلى الكعبة المشرفة في مكة المكرمة. وهو كذلك ثالث الحرمين الشريفين، بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، وله في قلب كل مسلم مكانة خاصة باعتباره أحد أقدس الأماكن على وجه الأرض.
ولذلك، لا يمكن تصور التفريط في المسجد الأقصى أو التهاون في الدفاع عنه بأي حال من الأحوال. إن الدفاع عن الأقصى ليس فقط قضية سياسية أو جغرافية، بل هو واجب ديني فرضه الله تعالى على الأمة الإسلامية. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
"سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى..."
[سورة الإسراء: 1]
إن هذا الحدث العظيم، الذي يشمل رحلة الإسراء والمعراج، يدل على المكانة العظيمة التي منحها الإسلام للمسجد الأقصى. ومن هنا، فإن التفريط في الأقصى يعني التفريط في جزء عزيز من ديننا، ومن تاريخنا، ومن مكانتنا كأمة مسلمة. لذا، فإن الدفاع عن الأقصى ليس مجرد خيار، بل هو فريضة شرعية لا يسقطها اختلاف الأعراق أو الحدود السياسية. فالأقصى هو واجب كل مسلم ومسلمة، وله مكانته العظيمة في أعماق كل مؤمن.
الطريق إلى تحرير فلسطين يبدأ من الإسلام
النصر لا يتحقق إلا بتحكيم شرع الله
إن الطريق إلى النصر في فلسطين، كما في أي قضية إسلامية أخرى، لا يمكن أن يكون مفروشا بالوعود الكاذبة أو الشعارات الجوفاء التي ترفع في المؤتمرات السياسية أو المنابر الإعلامية. فقد بين القرآن الكريم أن النصر الحقيقي لا يتحقق إلا عندما يتحقق الإيمان الصادق والعمل الصالح، وأن كل محاولات التحرير التي تبتعد عن تطبيق شرع الله تعالى تظل محاولات ناقصة لا تنال النجاح الكامل.
فالله سبحانه وتعالى قد ربط النصر بتطبيق دينه في الأرض، وإقامة شرعه في جميع جوانب الحياة، سواء في الحكم أو في المعاملات أو في السلوك الفردي والجماعي. قال تعالى:
"إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ"
[آل عمران: 160]
هذه الآية الكريمة تذكرنا بأن النصر مرتبط بتوفيق الله وحده، وأنه لا قوة تستطيع أن تقف في وجه إرادة الله إذا كانت الأمة ملتزمة بشرعه. وبذلك، لا يمكن للسياسات الخارجية أو الحلول المؤقتة أن تحقق التحرير الكامل، بل إن العودة إلى الدين والتطبيق الشامل لشرع الله هو السبيل الوحيد إلى تحقيق النصر الحقيقي والتمكين.
الجهاد في سبيل الله هو الطريق
إن مفهوم الجهاد في الإسلام ليس مجرد عمل عسكري أو مقاومة عنيفة، بل هو جهاد شامل، يبدأ من جهاد النفس وتطهيرها من الشوائب، وصولا إلى الجهاد في سبيل الله في الدفاع عن الحقوق والمقدسات. ومن هذا المنطلق، فإن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتحقق من خلال التنازلات السياسية أو الحلول الوسط، مثل "حل الدولتين" الذي لا يعدو كونه محاولة لتجميل واقع الاحتلال وشرعنته.
بل إن تحرير فلسطين يتطلب جهادا إسلاميا حقيقيا، تتوحد فيه الأمة الإسلامية، ويرفع فيه لواء العقيدة الإسلامية، لا رايات القومية ولا الأيديولوجيات الوضعية التي تفرق ولا توحد. إن الجهاد في سبيل الله هو طريق تحرير الأرض، وهو الطريق الذي سار عليه الأنبياء والصحابة، حيث كانت الغاية واحدة وهي تحرير الأرض من الظلم والاحتلال، لا من أجل تحقيق مصالح سياسية ضيقة أو حسابات غير إسلامية.
الجهاد في سبيل الله ليس فقط عبر البندقية، بل يشمل كل أشكال المقاومة المشروعة التي تدافع عن الحق وتناصر المظلومين. ومن ثم، فإن الطريق إلى تحرير فلسطين يبدأ من داخل الأمة الإسلامية، ويعتمد على تجديد الوعي العقائدي، وتوحيد الجهود، وتطبيق الشريعة الإسلامية في مختلف مجالات الحياة.
فلسطين مسؤولية الأمة الإسلامية بأسرها
لا يعفى أحد من الواجب.. فلسطين قضية الأمة كلها
إن القضية الفلسطينية ليست مسؤولية جهة واحدة أو فصيل واحد، ولا يجب أن تقتصر على حكومات معينة أو حركات سياسية معينة. بل هي قضية الأمة الإسلامية جمعاء، تعنى بها كل الأفراد، بغض النظر عن مواقعهم أو تخصصاتهم. إنها مسؤولية كل مسلم ومسلمة في كل مكان، سواء كانوا حكاما أو شعوبا، علماء أو مفكرين، إعلاميين أو مجاهدين. فالأمة الإسلامية، بكل أطيافها، مسؤولة عن دعم هذه القضية بكل ما تملك من إمكانيات، سواء كانت فكرية، مادية، أو روحية.
إن انشغال بعض الدول بقضايا داخلية أو علاقات إقليمية لا يجب أن يعيقهم عن تفعيل دورهم في القضية الفلسطينية. فالفلسطينيون يعانون في أرضهم، والمحتل يواصل استباحة مقدساتهم، ولا يمكن لأي مسلم أن يتجاهل هذا الواقع أو يتهرب من واجب نصرة إخوانه في فلسطين. من هنا، يجب على الأمة الإسلامية أن تعي أن فلسطين ليست مجرد قضية جزئية أو ملفا من الملفات السياسية، بل هي قضية مصيرية تمس الكرامة الإنسانية والإيمان بالله سبحانه وتعالى. فإن تفرق الأمة وتجزؤها في هذا الملف قد يزيد من تعقيد الوضع، بينما التوحد حولها يعيد لها الزخم والقدرة على مواجهة التحديات.
الحل في العودة إلى حكم الإسلام.. فلسطين تحت راية العدل الإلهي
من خلال التاريخ، أثبتت الأمة الإسلامية قدرة على تقديم نموذج عادل ومنصف لكل من عاش في ظلها، بغض النظر عن دياناتهم أو معتقداتهم. لقد كانت فلسطين جزءا من هذا النموذج في العصور الإسلامية، حيث عاش اليهود والمسيحيون والمسلمون في تناغم وتعاون تحت راية الإسلام، وكان العدل والمساواة هما أساس الحكم. وفي ظل هذا النظام، كانت فلسطين مركزا للحضارة والتعايش بين جميع الأديان.
لكن اليوم، فإن الاحتلال الإسرائيلي والنظام الصهيوني في فلسطين يظهر بوضوح العجز الكامل عن تقديم حل عادل أو توفير حقوق الإنسان في المنطقة. فالحل الحقيقي لفلسطين لا يكمن في الحلول السياسية الغربية التي تروج لها بعض الأنظمة الدولية، ولا في الأنظمة العلمانية أو الشيوعية التي تسعى إلى فرض قيم بعيدة عن تعاليم الإسلام. بل الحل يكمن في العودة إلى نظام الحكم الإسلامي الذي يجسد العدالة والرحمة للجميع، ويكفل حقوق الفلسطينيين بشكل شامل، ويحفظ الأمان لكل من يعيش على هذه الأرض.
إن تطبيق الشريعة الإسلامية هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام والعدالة في فلسطين، وهو الطريق الذي يمنح جميع سكانها الحق في العيش بسلام وأمان، ويضمن لهم حقوقهم في الأرض والمقدسات. وما نراه من تنازلات في بعض المبادرات السياسية لا يمكن أن يكون حلا حقيقيا، بل هو محاولة لإضفاء الشرعية على واقع الاحتلال وتجزئة الحق الفلسطيني. لذا، فإن عودة فلسطين إلى أهلها تحت راية الإسلام هي السبيل الوحيد لتحقيق التحرير الكامل والاستقرار الدائم.
خاتمة: فلسطين تنتظر الأمة الموحدة
إن فلسطين اليوم لا تحتاج إلى بيانات الشجب والاستنكار التي تصدرها بعض الحكومات أو المنظمات بين الحين والآخر، بل هي بحاجة إلى أمة إسلامية تعود إلى ربها، وتستعيد إيمانها، وتتوحد كلمتها من أجل قضية واحدة هي قضية الحق والعدالة. فلسطين تنتظر أمة تعود إلى هويتها الإسلامية العريقة، لا أمة تتوزعها الخلافات السياسية والأيديولوجية، ولا أمة تتقاذفها مصالح ضيقة وأجندات خارجية.
الطريق إلى النصر في فلسطين لا يمر عبر تصريحات إعلامية أو مبادرات سياسية لا تتسم بالجدية، بل يمر عبر عودة الأمة إلى قيمها العميقة والإيمان برسالتها، وحشد كافة قواها لانتزاع الحق من أيدي المحتلين. إن وحدة الأمة هي المفتاح، وهو السبيل الذي من خلاله يمكن أن تحقق فلسطين حريتها وتستعيد حقوقها.
إن فلسطين، بقدسها ومقدساتها، تنتظر اللحظة التي يرفع فيها لواء العزة فوق المسجد الأقصى المبارك، حينما يتحقق وعد الله تعالى للمؤمنين: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ" [النور: 55]. تلك اللحظة التي يخذل فيها الباطل، ويعود الحق إلى أهله، وتصبح فلسطين نموذجا للعدالة والسلام في العالم.
إن تحرير فلسطين هو مسؤولية جماعية، وهو أمل يعاش في قلب كل مسلم في العالم. وفي يوم قريب، بإذن الله، ستعود فلسطين إلى أهلها، وستطهر الأرض من دنس الاحتلال، ويعود الأقصى المبارك إلى حاضنته الإسلامية، عزيزا، محررا، ومطهرا.